التجديد في قانون الالتزامات والعقود المغربي
التجديد هو استبدال دين جديد بدبن قديم. فيكون سببا في انقضاء الدين القديم وفي نشوء الدين الجديد. فالتجديد هو إذن اتفاق على قضاء الإلتزام القديم ، وعقد لإنشاء الإلتزام الجديد. ويتميز الدين الجديد عن الدين القديم إما بتغيير الدين في محله أو في مصدره ، أو بتغيير المدين ، أو بتغيير الدائن.
والتجديد كنظام قانوني أصبح اليوم محدود الأهمية. فالتجديد بتغيير الدين أصبح يغني عنه الوفاء بمقابل ، وتغني حوالة الدين عن التجديد بتغيير المدين ، وحوالة الحق عن التجديد بتغيير الدائن.
وقد تناول قانون الإلتزامات والعقود التجديد في الباب الرابع من القسم السادس المخصص لإنقضاء الإلتزامات من الكتاب الأول المتعلق بمصادر الإلتزامات. حيث استهل المشرع هذا الباب بتعريف التجديد في الفقرة الأولى من الفصل 347 بقوله " التجديد انقضاء التزام في مقابل إنشاء التزام جديد يحل محله ".
وعليه فالتجديد هو اتفاق الدائن والمدين على الإستعاضة عن الإلتزام الأصلي الذي كان يربطهما بالتزام جديد يحل محله. فمن خصائص التجديد والحالة هذه أنه سبب لانقضاء الإلتزام القديم ومصدر نشوء الإلتزام الجديد الذي حل مكانه.
بناء على ما تقدم أعلاه ، نطرح الإشكال التالي : ماهي مختلف طرق التجديد التي نظمها قانون الإلتزامات والعقود ، وماهي الشروط الواجب توافرها لتمام التجديد ، وما الآثار التي تترتب عليه ؟
للإجابة على الإشكال المثار أعلاه سنتطرق إلى طرق التجديد وشروطه ( المطلب الأول ) ، ثم سنتناول الآثار التي تترتب عليه ( المطلب الثاني ).
المطلب الأول : طرق التجديد وشروطه وآثاره
سنعرض لمختلف طرق التجديد التي نص عليها قانون الإلتزامات والعقود ثم نحدد الشروط اللازمة لتمامه ( الفقرة الأولى ) ، ثم نتناول الآثار التي تترتب عليه ( الفقرة الثانية ).
الفقرة الأولى : طرق التجديد وشروطه
أولا : طرق التجديد
نص الفصل 350 من ق.ل.ع على ما يأتي : " يحصل التجديد بثلاث طرق :
أن يتفق الدائن والمدين على إحلال التزام جديد محل القديم الذي ينقضي، أو على تغيير سبب الإلتزام القديم
أن يحل مدين جديد محل القديم الذي يحلله الدائن من الدين. ويجوز أن يحصل هذا الإحلال من غير مشاركة المدين القديم.
أن يحل ، نتيجة تعهد جديد ، دائن جديد محل القديم الذي تبرأ ذمة المدين بالنسبة إليه...".
فمن هذا النص يتبين أن التجديد يمكن أن يكون إما بطريق تغيير الإلتزام ، وإما بطريق تغيير المدين ، وإما بطريق تغيير الدائن.
أولا : التجديد بتغيير الإلتزام
يكون التجديد بتغيير الإلتزام إذا اختلف الإلتزام الجديد عن الإلتزام القديم بمحله أو بسببه.
ومن قبيل تجديد الإلتزام بتغيير محله تعديل طبيعة هذا المحل كأن يكون محل الإلتزام القديم دينا مدنيا فيستعاض عنه بالتزام جديد يكون محله دينا تجاريا أو العكس.
وكذلك يعتبر تجديدا للإلتزام بتغيير محله التعديل الذي يتناول كيان الإلتزام ووجوده ، كأن يكون الإلتزام القديم منجزا فيعلقه الطرفان على شرط واقف أو شرط فاسخ. ، أو أن يكون الإلتزام في الأصل معلقا على مثل هذا الشرط فيعدله الطرفان إلى التزام منجز.
وتجدر الإشارة إلى أن الغالب أن يتعادل المحل الجديد والمحل القديم في القيمة. ولكن هذا التعادل ليس بشرط لصحة التجديد.
ثانيا : التجديد بتغيير المدين
يتجدد الإلتزام بتغيير المدين إذا حل مدين جديد محل المدين القديم الذي يتحلل من الإلتزام.
والتجديد بتغيير المدين يمكن أن يتخذ إحدى صورتين :
ففي الصورة الأولى يتفق المدين مع الدائن على أن يحل شخص ثالث محل المدين ويقبل هذا الشخص الثالث بأن يكون هو المدين الجديد. ففي هذه الصورة يتم التجديد بمشاركة ثلاثة أطراف : الدائن ، والمدين الأصلي ، والمدين الجديد اذي قد لا تربطه بالمدين الأصلي أية رابطة سابقة أو قد يكون ـ وهو الأغلب ـ مدينا لهذا المدين الأصلي.
وهذا النوع من التجديد يسمى بالإنابة لأن المدين الأصلي قد أناب مدينا جديدا عنه في وفاء الدين. وتجدر الإشارة إلى أن الإنابة كطريقة للتجديد توصف بأنها إنابة كاملة نظرا لأنها تقضي الدين القديم وتحل دينا آخر محله.
ويجدر لفت النظر إلى أنه لابد ، في هذه الصورة الأولى من التجديد ، من اتفاق الأطراف الثلاثة : الدائن والمدين الأصلي والشخص الثالث على أن يحل هذا الشخص الثالث محل المدين الأصلي في الإلتزام. وعليه لا يكون هناك تجديد إذا لم يتفق على أن يكون الشخص الثالث مدينا بل وكيلا أو مفوضا عن المدين بوفاء الدين. وهذا ما حرص المشرع على التنبيه إليه في الفقرة الأخيرة من الفصل 350 من ق.ل.ع بقوله " مجرد تعيين المدين شخصا يلتزم بأن يقوم بالوفاء بالدين مكانه لا يؤدي إلى التجديد ".
أما في الصورة الثانية فيحصل التجديد باتفاق بين الدائن والمدين الجديد وحدهما على أن يحل هذا الأخير محل المدين الأصلي. ففي هذه الصورة يتم التجديد دون مشاركة المدين الأصلي بل بمجرد اتفاق الدائن والمدين الجديد.
ثالثا : التجديد بتغيير الدائن
يتجدد الإلتزام بتغيير الدائن إذا تم الإتفاق بين الدائن والمدين وشخص أجنبي على أن يصبح هذا الأخير هو الدائن الجديد. فإذا حصل الإتفاق انقضى الإلتزام القديم وحل محله التزام جديد يختلف عن الإلتزام القديم بشخص الدائن.
ولابد لتمام التجديد بتغيير الدائن من مشاركة أطراف ثلاثة : الدائن القديم والمدين والدائن الجديد. وضرورة مشاركة هذه الأطراف الثلاثة هو الذي يميز التجيد عن حوالة الحق التي تنعقد باتفاق الدائن القديم والدائن الجديد دون حاجة إلى رضا المدين الذي تبلغ إليه الحوالة أو يطلب منه قبولها لا لانعقادها بل لتكون نافذة في حقه.
ثم إنه يشترط ، حتى يستقيم التجديد بتغيير الدائن ، كما هو الحال بالنسبة للتجديد بتغيير المدين ، أن تكون نية الأطراف قد اتجهت إلى إحلال الدائن الجديد محل ادائن القديم في دين جديد. وعليه لا مجال للقول بوجود التجديد إذا لم يتفق على أن يكون الشخص الجديد دائنا بل وكيلا أو مفوضا عن الدائن في استيفاء الدين. وهذا ما نبه إليه المشرع في الفقرة الأخيرة من الفصل 350 من ق.ل.ع بقوله " لا يؤدي إلى التجديد مجرد تعيين الدائن شخصا للاستيفاء عنه ".
ثانيا : شروط التجديد
ورد في الفقرة الثانية من الفصل 347 من ق.ل.ع أن " التجديد لا يفترض بل يجب التصريح بالرغبة ي إجرائه ".
وألزم الفصل 348 من ق.ل.ع لإجراء التجديد : 1- أن يكون الإلتزام القديم صحيحا ، 2- أن يكون الإلتزام الجديد الذي يحل محله صحيحا بدوره ".
وأكد الفصل 349 من ق.ل.ع أنه " لا يمكن حصول التجديد إلا إذا كان الدائن أهلا للتفويت والمدين الجديد أهلا للإلتزام...".
وأوضح الفصل 351 من ق.ل.ع أن " إحلال شيء محل الشيء المبين في الإلتزام القديم يمكن أن يعد تجديدا إذا كان من شأنه أن يلحق بالإلتزام تعديلا جوهريا...".
ففي ضوء هذه النصوص يتبين أنه لابد لتمام التجديد من توافر ثلاثة شروط : وجود التزام صحيح يستعاض عنه بإنشاء التزام آخر صحيح كذلك يغاير الأول في عنصر من عناصره الجوهرية ، تمتع الأطراف في التجديد بالأهلية اللازمة ، توافر نية التجديد لدى الأطراف.
الشرط الأول : وجود التزام صحيح يستعاض عنه بإنشاء التزام أخر صحيح يغاير الأول في أحد عناصره الجوهرية
يتطلب هذا الشرط تحقق الأمور التالية : وجود التزام صحيح ، الإستعاضة عن هذا الإلتزام بالتزام جديد صحيح ، مغايرة الإلتزام الجديد للإلتزام القديم في أحد عناصره الجوهرية.
وجود التزام صحيح
تقوم عملية التجديد على الإستعاضة عن التزام قديم بالتزام جديد يحل محله. فالإلتزام القديم هو إذن السبب في إنشاء الإلتزام الجديد. لذا لا يمكن أن ينشأ هذا الإلتزام الجديد مالم يكن مرتكزا على سبب موجود وما لم يكن هذا السبب صحيحا. ولهذا اشترط المشرع لإجراء التجديد في الفصل 348 من ق.ل.ع " أن يكون الإلتزام القديم صحيحا ".
وعليه :
إذا كان الإلتزام القديم معدوما اصلا وظن وجوده توهما ، أو كان الإلتزام القديم قد انقضى قبل التجديد ، فإنه لا يمكن أن يكون هناك تجديد ولو اتفق الأطراف على إنشاء التزام جديد يح محل الإلتزام الموهوم. ذلك أن الإلتزام الجديد يستمد قوامه من الإلتزام القديم الذي حل محله ، فإذا انتفى هذا الإلتزام القديم لا تقوم للتجديد قائمة لتخلف سببه.
وإذاكان الإلتزام القديم باطلا ، فإنه لا يصلح أساسا للتجديد لأن الإلتزام الباطل هو التزام مجرد منكل أثر طبقا لمقتضيات الفصل 306 من ق.ل.ع
وإذا كان الإلتزام القديم مصدره عقد قابل للإبطال لنقص في الأهلية أو لعيب شاب الإرادة ، وجرى تجديده في وقت مازال سبب الإبطال قائما ، فإن التجديد لا يكون صحيحا ، لأن الإلتزام القديم يبقى قابلا للإبطال رغم تجديده ، وإبطال هذا الإلتزام يفضي بالضرورة إلى إبطال التجديد. أما إذا جرى التجديد في وقت قد زال فيه سبب الإبطال ، فإنه يعتد عندها بالتجديد لأنه يعتبر إذ ذاك بمثابة إجازة للعقد وتنازل عن دعوى الإبطال.
إنشاء التزام جديد صحيح
لا بد في التجديد من نشوء التزام جديد يحل محل الإلتزام القديم. وهذا الإلتزام الجديد يشترط فيه بالبداهة أن يكون التزاما صحيحا. إذ لا يعقل أن يقبل الدائن بانقضاء الإلتزام القديم إلا إذا كان على يقين أن الإلتزام الجديد التزام صحيح منتج لآثاره القانونية. ولهذا فإن المشرع بعد أن نص في الفصل 348 من ق.ل.ع على أنه يجب لقيام التجديد أن يكون الإلتزام القديم صحيحا ، أضاف في نفس الفصل أنه يلزم أيضا أن يكون الإلتزام الجديد الذي يحل محله صحيحا بدوره.
وعليه :
إذا كان الإلتزام الجديد باطلا لسبب من الأسباب التي تؤول إلى بطلان الإلتزام ، فإن التجديد لا تقوم له قائمة ويبقى الإلتزام القديم على أصله لا ينقضي.
وإذا كان الإلتزام الجديد قابلا للإبطال لنقص في الأهلية أو لعيب في الإرادة ، فإن مصير التجديد يبقى معلقا : فالتجديد يزول ويعود الإلتزام القديم كما كان في الأصل إذا بادر صاحب الحق في الإبطال إلى الطعن في الإلتزام الجديد وتقرر إبطال هذا الإلتزام. أما إذا تقادمت دعوى الإبطال أوإذا أقدم في أي وقت صاحب الحق في الإبطال على إجازة العقد وهو على بينة من الأمر ، فإن التجديد ينقلب صحيحا فينقضي الإلتزام القديم بصورة نهائية ويحل محله الإلتزام الجديد على وجه بات.
مغايرة الإلتزام الجديد للإلتزام القديم في عنصر جوهري
لا يكفي في التجديد مجرد حلول التزام جديد محل الإلتزام القديم ، بل لابد أن يكون هذا الإلتزام الجديد مغايرا للإلتزام السابق في عنصر من عناصره الجوهرية.
ويعد الإلتزام الجديد مختلفا عن الإلتزام القديم في عنصر جوهري إذا كان ثمة تعديل في شخص المدين ، أو في شخص الدائن ، أو محل الإلتزام أو في سببه. فمثل هذه التعديلات الجوهرية هي التي يمكن أن يقوم معها التجديد ، وهي التي قصدها المشرع عندما صرح في الفصل 351 من ق.ل.ع أن " إحلال شيء محل الشيء المبين في الإلتزام القديم يمكن أن يعد تجديدا إذا كان من شأنه أن يلحق بالإلتزام تعديلا جوهريا...".
وعليه ، لا يعد تجديدا إدخال تعديل غير جوهري على الإلتزام القديم. وقد اعتبر المشرع من قبيل التعديلات غير الجوهرية تغيير مكان التنفيذ ، أو التعديلات الواردة على شكل الإلتزام ، أو التعديلات الواردة على الققيود المضافة له كالأجل والشروط والضمانات. جاء بهذا الخصوص ضمن الفصل 351 "...أما تغيير مكان التنفيذ أو التعديلات الواردة على شكل الإلتزام أو على القيود المضافة له كالأجل والشروط والضمانات فلا تعد تجديدا...".
والتعداد الوارد في الفصل 351 من ق.ل.ع ليس تعدادا حصريا بل هو علي سبيل التمثيل. والمبدأ الذي يجب الرجوع إليه في هذا الصدد هو أن كل تعديل لا يتناول عنصرا جوهريا من عناصر الالتزام لا يمكن أن يعتبر تجديدا لهذا الإلتزام.
على أن التعديل الذي يتناول عنصرا غير جوهري ي الإلتزام ، لئن كان ليس من شأنه أن يشكل تجديدا بحد ذاته ، فإن الأمر على عكس ذلك إذا كان الأطراف قد أعلنوا صراحة عن إرادتهم في تجديد الإلتزام. عندها يعتبر مثل هذا التعديل ، رغم وروده على عنصر غير جوهري ، تغيير في محل الإلتزام وبالتالي تجديدا للإلتزام. وهذا ما أوضحه المشرع في آخر الفصل 351 من ق.ل.ع ، حيث بعد تأكيده أن التغيير في عنصر غير جوهري في الإلتزام لا يعتر تجديدا ، أضاف " إلا إذا كان المتعاقدان قد قصداه صراحة ".
الشرط الثاني : تمتع الأطراف في التجديد بالأهلية اللازمة
التجديد ككل تصرف قانوني يتطلب قيامه توافر الأهلية اللازمة لدى الأطراف المشتركة فيه. وقد المشرع لهذه الأهلية في الفصل 349 من ق.ل.ع فنص على أنه " لا يمكن حصول التجديد إلا إذا كان الدائن أهلا للتفويت والمدين الجديد أهلا للإلتزام. ولا يجوز للأولياء والوكلاء ومن يتولون أموال غيرهم إجراء التجديد ، إلا في الأحوال التي يجوز لهم فيها إجراء التفويت ".
ففي ضوء هذا النص نستطيع القول أنه لا يكفي في التجديد أن يكون الدائن أهلا لاستيفاء الدين والمدين أهلا للوفاء به ، بل لا بد أن يكون الدائن أهلا للتفويت والمدين أهلا للإلتزام، لأن اتجديد ينطوي على انقضاء التزام وإنشاء التزام جديد يحل محله. ومن ثم لا يجوز للقاصر أو ناقص الأهلية أن يجدد الإلتزام ، بل إن التجديد يتم من قبل النائب الشرعي بعد الحصول على إذن من المحكمة لأن التجديد هو عمل من أعمال التصرف وأعمال التصرف لا يحق للنائب الشرعي ممارستها إلا بإذن من القاضي. وهذا ما نص عليه المشرع في الفصل 11 من ق.ل.ع الذي جاء فيه " الأب الذي يدير أموال ابنه القاصر أو ناقص الأهلية ، والوصي والمقدم بوجه عام كل من يعينه القانون لإدارة أموال غيره ، لا يجوز لهم إجراء أي عمل من أعمال التصرف على الأموال التي يتولون إدارتها ، إلا بعد الحصول على إذن خاص بذلك من القاضي المختص...".
أما الدائن المتضامن أو المدين المتضامن فإن كلا منهما يستطيع إجراء التجديد بحيث إذا أجراه الدائن المتضامن انقضى الإلتزام التضامني في حق جميع الدائنين ، وإذا أجراه المدين المتضامن برأت ذمة سائر المدينين الآخرين ، وذلك لأن المشرع المغربي اعتبر وكالة الدائن المتضامن أو المدين المتضامن شاملة تجديد الإلتزام. جاء بهذا الخصوص ضمن الفصل 155 من ق.ل.ع " ينقضي الإلتزام التضامني في حق جميع الدائنين ، إذا تم في حق أحدهم الوفاء به أو الوفاء بمقابل ، أو إيداع الشيء المستحق ، أو المقاصة أو التجديد ". وجاء في الفصل 171 من ق.ل.ع " التجديد الحاصل بين الدائن وأحد المدينين المتضامنين يبرئ ذمة الآخرين...".
الشرط الثالث : توافر نية التجديد لدى الأطراف
ورد في الفقرة الثانية من الفصل 347 من ق.ل.ع أن " التجديد لا يفترض بل يجب التصريح بالرغبة في إجرائه ". وعليه فليس كل تغيير في الإلتزام يعتبر تجديدا ، بل لا بد من أن تظهر نية الأطراف المعنية في أنهم قصدوا بهذا التغيير تجديد الإلتزام.
وقول المشرع إن " التجديد لا يفترض بل يجب التصريح بالرغبة في إجرائه " لا يفهم منه أنه لا بد أن يعبر عن الرغبة في التجديد بنص صريح في العقد. فقد يستخلص التجديد من ظروف الحال ، والمهم في الأمر أن تكون الدلالة على التجديد واضحة لا خفاء فيها ولا لبس.
فنية التجديد تعتبر قائمة إذا كان الإلتزام الجديد مغايرا للإلتزام القديم في محله أو في سببه أو في شخص المدين أو في شخص الدائن. فكل تغيير من هذا القبيل يعتبر تعديلا جوهريا في الإلتزام يستخلص منه التجديد بوضوح.
إلا أن إدخال تعديل غير جوهري على الإلتزام كتغيير مكان التنفيذ أو التعديلات الواردة على شكل الإلتزام أو على القيود المضافة له كالأجل والشرط والضمانات لا يمكن أن تستخلص منه نية التجديد بل لا بد في هذه الحالة أن يقيم ذو المصلحة الدليل على وجود التجديد.
وتتبع في إثبات التجديد القواعد العامة في الإثبات. فلا بد إذن لمن يدعي وجود التجديد من تقديم دليل كتابي إذا كانت قيمة الإلتزام تفوق عشرة آلاف درهم طبقا للفصل 443 من ق.ل.ع ، مالم تكن توجد بداية حجة بالكتابة حيث تسمع البينة بالشهادة والقرائن طبقا للفصل 447 من ق.ل.ع
الفقرة الثانية : آثار التجديد
يترتب على التجديد أثران أحدهما مسقط والآخر منشئ : فالأثر المسقط هو انقضاء الإلتزام القديم نهائيا. أما الأثر المنشئ فهو قيام التزام جديد يحل محل الإلتزام القديم.
أولا : الأثر المسقط
التجديد يفضي إلى انقضاء الإلتزام القديم. وانقضاء هذا الإلتزام هو انقضاء تام يشمل الأصل وما يلحق هذا الأصل من توابع وما يضمنه من تأمينات شخصية أو عينية وما يتعلق ه من دعاوى أو ما يرد عليه من دفوع. وهكذا فالإلتزام القديم يزول من الوجود وتزول معه توابعه، شأن التجديد في ذلك شأن الوفاء.
على أن زوال هذا الإلتزام القديم رهين بنشوء التزام جديد صحيح خال من أسباب البطلان. أما إذا كان الإلتزام الجديد باطلا لسبب من الأسباب فإن الإلتزام الأول يبقى على حاله.
ولكن زوال الإلتزام القديم لا يتوقف على تنفيذ الإلتزام الجديد كما هو الحال في الوفاء بمقابل: فالوفاء بمقابل يقتضي تنفيذ الإلتزام فورا ولا يكون من شأنه قضاء الإلتزام الأصلي إلا إذا تم نقل ملكية الشيء المقابل إلى الدائن. أما التجديد فيكتفى فيه بإنشاء التزام جديد دون ما ضرورة لأن يكون هذا الإلتزام واجب التنفيذ فورا.
وقد أوضحت الفقرة الأولى من الفصل 356 من ق.ل.ع هذه الأحكام بقولها " بالتجديد ينقضي الإلتزام القديم نهائيا ، إذا كان الإلتزام الجديد الذي حل محله صحيحا ولو لم يقع تنفيذ الإلتزام الجديد ".
وثمة حالة وجد المشرع أن ينبه إليها وهي ما إذا كان الإلتزام الجديد نشأ معلقا على شرط واقف. ففي هذه الحالة يتوقف أثر التجديد من حيث انقضاء الإلتزام القديم على تحقق الشرط الواقف. فإذا لم يتحقق هذا الشرط اعتبر التجديد كأن لم يكن وبقي الإلتزام القديم كما كان في الأصل. جاء بهذا الخصوص ضمن الفقرة الثانية من الفصل 356 من ق.ل.ع " بيد أنه إذا كان الإلتزام الجديد معلقا على شرط واقف ، فإن أثر التجديد يتوقف على تحقق الشرط ، فإذا لم يتحقق هذا الشرط ، اعتبر التجديد كأن لم يكن ".
والأصل في التجديد أن يكون سببا لانقضاء التأمينات التي كانت تضمن الوفاء بالإلتزام القديم. والإحاطة بهذا الموضوع تقتضي أن نميز بين التأمينات العينية التي قدمها المدين أو التي قررها القانون وبين التأمينات العينية أو الشخصية التي قدمها الغير.
التأمينات العينية المقدمة من المدين أو المقررة قانونا
جاء ضمن الفصل 355 من ق.ل.ع " الإمتيازات والرهون الرسمية الضامنة للدين القديم لا تنتقل إلى الدين الذي يحل محله ، إلا إذا احتفظ بها الدائن صراحة.
الإتفاق الذي من شأنه أن ينقل الضمانات العينية من الدين القديم إلى الجديد لا ينتج اثرا بالنسبة إلى الغير ، إلا إذا أبرم في نفس الوقت الذي يتم فيه التجديد وكان واردا في رسم ثابت التاريخ ".
ففي ضوء هذا النص نستطيع تقرير ما يلي :
الأصل في التجديد أن يكون سببا لانقضاء التأمينات التي كانت تضمن الإلتزام القديم : ذلك أن هذه التأمينات تتبع الإلتزام الأصلي وجودت وعدما فإذا زال الأصل وجب أن تزول معه توابعه عملا بالقاعدة الكلية التابع يتبع الأصل.
إل أنه لاعتبارات عملية محضة أباح المشرع الخروج على هذه القاعدة وأجاز استبقاء التأمينات رغم انقضاء الإلتزام الذي كانت تضمنه ونقلها إلى الإلتزام الجديد الذي حل محله. ولكن ذلك لا يتم حكما وبمجرد الإتفاق على التجديد ، بل لا بد من اتفاق خاص على انتقالها إلى جانب الإتفاق على التجديد.
وحرصا على حقوق الغير وحتى لا يضار هذا الغير من انتقال التأميات العينية إلى الإلتزام الجديد ، فقد أوجب المشرع ليكون الإتفاق على نقل هذه التأمينات نافذا نافذا زاء الكافة أن يبرم الإتفاق المذكور في نفس الوقت الذي يتم فيه التجديد ، وأن يكون واردا في رسم ثابت التاريخ. جاء بهذا الخصوص ضمن الفقرة الثانية من الفصل 355 " الإتفاق الذي من شأنه أن ينقل الضمانات العينية من الدين القديم إلى الجديد لا ينتج أثرا بالنسبة إلى الغير ، إلا إذا أبرم في نفس الوقت الذي يتم فيه التجديد وكان واردا في رسم ثابت التاريخ ".
فالإتفاق على نقل التأمينات يجب أن يتم في نفس الوقت الذي يتم فيه التجديد. ذلك أن التجديد من شأنه أن يقضي الإلتزام الأصلي. وانقضاء هذا الإلتزام يفضي بالضرورة إلى انقضاء التأمينات. وقد يفيد الغير من انقضاء هذه التأمينات كصاحب رهن من المرتبة الثانية في حالة زوال الرهن من المرتبة الأولى نتيجة الدين الذي كان مضمونا بهذا الرهن من المرتبة الأولى. فلا يجوز حرمان الغير مما أفاده عن طريق بعث التأمينات مجددا باتفاق يعقب التجديد على نقل هذه التأمينات إلى الإلتزام الجديد. ومن ثم اشترط المشرع المشرع حتى يكون الإتفاق على نقل الضمانات العينية من الإلتزام القديم إلى الإلتزام الجديد ذا أثر إزاء الغير ، أن يبرم هذا الإتفاق مع التجديد في وقت واحد.
ثم إن الإتفاق على نقل التأمينات يجب أن يرد في سند ثابت التاريخ وذلك منعا للتواطؤ والإضرار بالغير. ذلك أنه لو جاز أن يكون الإتفاق غير ثابت التاريخ ، لأمكن تقديم تاريخه حتى يكون معاصرا للتجديد ولو كان الإتفاق في الواقع لاحقا ، فتبقى التأمينات ضامنة للإلتزام الجديد مع أنه كان ينبغي أن تنقضي.
يلاحظ أن نص الفصل 355 من ق.ل.ع ، لم يجعل التأمينات التي يمكن اشتراط نقلها من الإلتزام القديم إلى الإلتزام الجديد قاصرة على التأمينات الإتفاقية التي يقدمها المدين لدائنه ( كالرهن الرسمي الرضائي والرهن الحيازي على منقول والرهن الحيازي العقاري ) ، بل أطلقها حتى غدت شاملة أيضا التأمينات التي يقررها القانون ( كالرهونات الجبرية والإمتيازات ).
التأمينات العينية أو الشخصية المقدمة من الغير
قد يكون الغير هو الذي قدم التأمينت التي تضمن الإلتزام الأصلي. وهذه التأمينات إما أن تكون شخصية وذلك بأن ضم الغير ذمته المالية إلى ذمة المدين عن طريق الكفالة أو التضامن ، وإما أن تكون عينية وذلك بأن رتب الغير رهنا على مال مملوك له ضمانا للوفاء باتزام المدين وقدم ما يسمى في الإصطلاح القانوني كفالة عينية.
فالقاعدة هنا أن التأمينات المقدمة من الغر سواء كانت شخصية أو كانت عينية تسقط بالتجديد ولا يمكن أن تنتقل إلى الإلتزام الجديد إلا بموافقة الغير : ذلك أن الغير ضمن التزاما معينا بذاته هو الإلتزام الأصلي ، فحتى يضمن التزاما غيره لا بد من رضائه بهذا الضمتن.
وعليه إذا اشترط الأطراف ي التجديد بقاء التأمينات المقدمة من الغير وانتقالها إلى الإلتزام الجديد ووافقوا جميعا على ذلك ، فموافقتهم هذه تبقى عديمة الأثر ، ما دام الغير مقدم التأمين، لم يقبل بالأمر حتى ولو كان الإلتزام الجديد أقل قيمة من الإلتزام الجديد.
وقد ورد بهذا المعنى في الفصل 171 من ق.ل.ع " التجديد الحاصل بين أحد المدينين المتضامنين يبرئ ذمة الآخرين مالم يرتضوا الإنضمام إليه في التحمل بالإلتزام الجديد ، ومع ذلك إذا اشترط الدائن انضمام المدينين الآخرين ، فامتنعوا منه ، فإن الإلتزام القديم لا ينقضي ".
ثانيا : الأثر المنشئ
يترتب على التجديد أثر منشئ إلى جانب أثره المسقط : فهو في الوقت الذي يقضي الإلتزام الأصلي ينشئ التزاما جديدا يحل محل الإلتزام المنقضي. وهذا الإلتزام الجديد هو غير الإلتزام القديم ، فله ذاتيته وصفاته ودعاواه ودفوعه ، وله تأميناته الخاصة عند الإقتضاء.
فقد يكون الإلتزام الأصلي مدنيا فينشأ الإلتزام الجديد تجاريا أو العكس.
وقد يكون الإلتزام القديم تضامنيا فيجدد بالتزام مضمون برهن حيازي ، أو يكون التزاما مضمونا بتامينات عينية أو شخصية فيستعاض عنه بالتزام عادي خال من أي ضمان.
وقد يكون الإلتزام الأصلي موثقا بحجة عرفية ويستبدل به التزام جديد بسند رسمي.
وفي كل ذلك القاعدة الأساسية التي يجب تقديرها هي أن التجديد أنشأ التزاما جديدا حل محل الإلتزام القديم ، وأن علاقة الأطراف في التجديد يحددها هذا الإلتزام الجديد لا الإلتزام القديم الذي انقضى نهائيا في أصله وتوابعه.
المطلب الثاني : الإنابة كطريقة للتجديد ( الإنابة الكاملة )
الإنابة بمفهومها الواسع ، تصرف قانوني يطلب بمقتضاه شخص اسمه المنيب من شخص آخر اسمه المناب أن يقوم بأداء ما أو أن يلتزم بمثل هذا الأداء لمصلحة شخص ثالث اسمه المناب لديه.
والإنابة بهذا المفهوم الواسع قد تتم بين أشخاص لاعلاقة قانونية سابقة فيما بينهم بحيث تكون هي مصدر هذه العلاقة.
فهذا النوع من الإنابة ، كما هو ظاهر ، مستقل كل الإستقلال عن نظام التجديد ولا تربطه بهذا النظام أية رابطة.
وثمة نوع من الإنابة ، وهو الحال الغالب عمليا ، تتم بين أشخاص تربط فيما بينهم علاقات سابقة كأن يكون المنيب دائنا لمناب ومدينا للمناب لديه.
وهذا النوع من الإنابة ليس من نمط واحد ولا تترتب عليه دوما نفس الآثار.
فقد يقبل المناب لديه الإنابة على أن يبقى محتفظا بحقه كامل قبل المنيب : ففي هذه الحالة يبقى المدين الأصلي ( المنيب ) ملزما بالدين إلى جانب المدين الجديد ( المناب ) بحيث يصبح للدائن مدينان بدل مدين واحد. ويعرف هذا النمط من الإناة اصطلاحا بالإنابة الناقصة أو الإنابة القاصرة لأنه لا يبرئ ذمة المنيب. وهذه الإنابة القاصرة هي التي أشار إليها المشرع عندما صرح في الفصل 223 أنه " الإنابة الصحيحة تبرئ ذمة المنيب ، مالم يشترط غير ذلك..." أي أنه يجوز الإشتراط على أن لا يترتب على الإنابة براءة ذمة المنيب.
وقد تترتب على الإنابة براءة ذمة المدين الأصلي ( المنيب ) بحيث تصبح الرابطة القانونية ، بعد الإنابة ، قائمة بين الدائن ( المناب لديه ) وبين المدين الجديد ( المناب ). وتعرف الإنابة الجارية على هذا الوجه بالإنابة الكاملة.
والإنابة الكاملة قد يقصد منها الدائن حوالة حقوقه على المدين لدائنه هو وفاء لما هو مستحق عليه له طبقا للفصل 217 وما يليه. فالإنابةعندها تشكل صورة من صور حوالة الحق.
وقد يقصد من الإنابة إبراء ذمة المدين وحلول مدين آخر محله يلتزم هو بوفاء الدين للدائن. فالإنابة عندئد تنطوي على تجديد الإلتزام بتغيير المدين. فهذه الصورة من صور الإنابة هي التي تحمل معنى التجديد.
وعليه سنتناول شروط الإنابة كصورة من صور التجديد ، ثم سنعرض لآثارها.
الفقرة الأولى : شروط الإنابة
الإنابة كصورة من صور بتغير المدين تتطلب لتمامها توافر سائر الشروط التي يتطلبها التجديد.
وعليه :
فالشرط الأول الواجبتوافره هو وجود التزام صحيح على المنيب قبل المناب لديه وكون الإلتزام المترتب على المناب قبل المنيب هو قائم وصحيح كذلك. وهذا ما نص عليه المشرع في الفصل 229 من ق.ل.ع حيث قال " لا تصح الإنابة :
إلا إذا كان الدين المناب عليه صحيحا قانونا
إلا إذا كان الدين الذي على الدائن المنيب صحيحا كذلك.
ولا تجوز الإنابة في الحقوق الإحتمالية ".
والشرط الثاني الواجب توافره لتمام الإنابة هو تمتع الأطراف في الإنابة بالأهلية اللازمة. وقد عرض المشرع لهذه الأهلية في الفصل 218 من ق.ل.ع حيث قرر أن " الأشخاص الذين لا يتمتعون بأهلية التصرف لا يحق لهم إجراء الإنابة ".
فكل من المنيب والمناب لديه يجب إذن أن يكون راشدا غير محجور عليه.
أما القاصر أو ناقص الأهلية فلا يصح أن يكون بنفسه طرفا في الإنابة. وإنما يمثله فيها نائبه الشرعي الذي لا بد له ليكون تمثيله صحيحا ، من الحصول على إذن من المحكمة لأن الإنابة تعتبر عملا من أعمال التصرف ، وأعمال التصرف لا يجوز للنائب الشرعي ممارستها إلا بإذن من القاضي المختص. وهذا ماجاء في الفصل 11 من ق.ل.ع " الأب الذي يدير أموال ابنه القاصر أو ناقص الأهلية ، والوصي والمقدم وبوجه عام كل من يعينه القانون لإدارة أموال غيره ، لا يجوز لهم إجراء أي عمل من أعمال التصرف على الأموال التي يتولون إدارتها ، إلا بعد الحصول على إذن خاص بذلك من القاضي المختص ".
وكذلك لا يستطيع الوكيل بالقبض أو بالوفاء ، أوالوكيل وكالةعامة ، إجراء الإنابة بالوكالة عن الدائن أو المدين ، لأن الإنابة تفضي إلى إبراء ذمة المدين المنيب ، وأن الإبراء من الدين هو من التصرفات التي لا يحق للوكيل القيام بها إلا بإذن صريح أو في الحالات التي يستثنيها القانون صراحة. جاء بهذا الخصوص ضمن الفصل 894 " لا يجوز للوكيل ، أيا ما كان مدى صلاحياته ، بغير إذن صريح من الموكل.....الإبراء من الدين...وكل ذلك ما عدا الحالات التي يستثنيها القانون صراحة ".
أما الدائن المتضامن أو المدين المتضامن فلكل منهما إجراء الإنابة بحيث إذا أجراها الدائن المتضامن انقضى الإلتزام التضامني في حق جميع الدائنين ، وإذا أجراها المدين المتضامن برأت ذمة سائر المدينين الآخرين ، وذلك لأن المشرع أجاز ضراحة للدائن المتضامن أو المدين المتضامن القيام بتجديد الإلتزام ضمن الفصلين 155 و 171 من ق.ل.ع و الإنابة هي تجديد للإلتزام بتغيير المدين.
أما الشرط الثالث الواجب تحققه إلى جانب الشرطين السابقين فهو توافر نية التجديد لدى الأطراف في الإنابة ، بحيث يقبل هؤلاء بانقضاء الإلتزام الذي كان مترتبا على المدين الأصلي المنيب وبنشوء التزام جديد محله يقوم بين المدين الجديد المناب وبين الدائن المناب لديه.
على أن ثمة اختلافا هاما يلحظ في صدد توافر نية التجديد بين الإنابة من جهة وبين التجديد من جهة ثانية. ففي حين أن الرغبة في التجديد يمكن أن يعبر عنها بنص صريح في العقد كما يمكن أن تستخلص من أي تغيير في عنصر من عناصر الإلتزام الجوهرية ، نرى المشرع يتشدد في الإنابة ، فلا يعتبرها منطوية على التجديد إلا إذا صدر عن الدائن المناب لديه تصريح يعلن فيه بوضوح أنه قد قصد إبراء ذمة منينه المنيب وقبل بأن يحل محله المدين الجديد المناب. وهذا ما يستفاد من الفصل 352 من ق.ل.ع الذي جاء فيه أن " الإنابة التي بمقتضاها يعطي المدين للدائن مدينا آخر غيره يلتزم بأن يدفع له الدين ، تؤدي إلى التجديد، إذا صرح الدائن بأنه يقصد إبراء ذمة مدينه الذي أجرى الإنابة وبأنه يتنازل عن كل حق له في الرجوع عليه ".
الفقرة الثانية : آثار الإنابة
تترتب على الإنابة المنطوية على تجديد بتغيير المدين الآثار التي تترتب على كل تجديد : فهي تبرئ ذمة المدين الأصلي المنيب وتنشئ التزاما جديدا على المناب قبل الدائن المناب لديه.
ولئن كانت الأحكام العامة التي قررها المشرع في معرض البحث في التجديد تنطبق مبدئيا على الإنابة ، فإن ثمة أحكاما خاصة تجب مراعتها علاوة على تلك الأحكام.
ويقتضي بسط هذه الأحكام أن نتناول علاقة المنيب بالمناب لديه ، ثم علاقة المناب لديه بالمناب ، ثم أخيرا علاقة المنيب بالمناب.
علاقة المنيب بالمناب لديه
أوضح الفصل 353 من ق.ل.ع علاقة المنيب بالمناب لديه بقوله " يترتب على الإنابة براءة ذمة المدين ولا يكون للدائن أي رجوع عليه ، ولو أصبح المدين المناب في حالة عسر، مالم يكن عسره هذا واقعا بالفعل عند حصول التجديد ، بدون علم من الدائن ".
فالإنابة ، باعتبارها تجديدا بتغيير المدين ، تبرئ ذمة المدين الأصلي المنيب ، شرط طبعا ، كما هو الحال في كل تجديد ، أن يكون الإلتزام الجديد المنشأ في ذمة المناب قبل المناب لديه صحيحا.
وعليه ، إذا نشأ التزام المناب صحيحا ، فقد المناب لديه كل رجوع على المدين الأصلي ولو أصبح المدين في حالة عسر لأن الدائن المناب لديه هو الذي يتحمل تبعة هذا الإعسار.
أما إذا كان المناب معسرا وقت الإنابة وكان المناب لديه غير عالم بذلك ، فإن الإنابة لا تترتب عليها براءة ذمة المنيب بل للمناب لديه ، في هذه الحالة ، حق الرجوع عليه بدعوى الدين الأصلي : ذلك أن المشرع افترض هنا بأن الدائن المناب لديه ، لم يكن ليقبل بالإنابة وما يتبعها من براءة ذمة المدين الأصلي المنيب إلا على أساس يسر المناب ولاءته وقت الإنابة. فإذا تبين أن المناب كان واقعا بالفعل بالفعل في حالة إعسار إذ ذاك ، وكان المناب لديه يجهل ذلك ، وقعت الإنابة عرضة للإبطال لغلط المناب لديه إذ قبل بالإنابة ، حاسبا أن المناب مليء ، ولتدليس المنيب إذا ما أجرى الإنابة وهو عالم بعسر المناب ،وإبطال الإنابة يعيد الإلتزام الأصلي الذي كان يترتب في ذمة المنيب إلى سابق عهده بما كان يضمنه من تأمينات.
علاقة المناب لديه بالمناب
لما كانت الإنابة قد أنشأت التزاما جديدا في ذمة المناب للمناب لديه حل محل الإلتزام الأصلي الذي انقضى بالتجديد ، فإن للمناب لديه أن يطالب المناب بتنفيذ هذا الإلتزام الجديد. ويبقى حقه محصورا بهذه المطالبة حتى لو أعسر المناب بعد الإنابة ، إذ في هذه الحالة ، يتحمل المناب لديه تبعة هذا الإعسار.
وانطلاقا من الفكرة التي تقول إن التزام المناب قبل المناب لديه هو التزام مجرد لا يتأثر بالإلتزام القديم الذي كان يربط المناب بالمنيب ، بل هو مستقل عنه تمام الإستقلال. إلا أن المشرع لم يأخذ بفكرة تجريد التزام االمناب نحو المناب لديه عن سببه على إطلاقها ، بل جعلها مقيدة ببعض الشروط ، بحيث ما لم تتوافر هذه الشروط ، يستطيع المناب التمسك في مواجهة المناب لديه بالدفوع التي كان يستطيع الإحتجاج بها في مواجهة المنيب.
فالشرط الأول الواجب توفره ، هو أن يكون التزام المناب قبل المنيب التزاما صحيحا في الأصل. حيث جاء بهذا الخصوص ضمن الفصل 220 من ق.ل.ع " لا تصح الإنابة :
إلا إذا كان الدين المناب عليه صحيحا قانونا ". أما إذا كان هذا الإلتزام باطلا لسبب من الأسباب فإن الإنابة كلها لا تصح. وعليه إذا أبرمت الإنابة رغم بطلان الإلتزام المذكور ، فإنه يبقى من حق المناب أن يحتج في مواجهة المناب لديه ببطلان التزامه نحو المنيب ، وبالتالي ببطلان الإنابة مع ما يستتبع ذلك من بطلان الإلتزام الجديد الذي يربط المناب بالمناب لديه.
والشرط الثاني هو أن يكون المناب لديه حسن النية. فالفصل 354 من ق.ل.ع نص على أنه " ليس للمدين الذي يقبل الإنابة أن يتمسك ، في مواجهة الدائن الجديد حسن النية ، بالدفوع التي كان يسوغ له أن يتمسك بها في مواجهة الدائن الأصلي مع بقاء حقه في الرجوع على هذا الأخير ". الأمر الذي يتبين منه بوضوح أن منع المناب من التمسك في مواجهة المناب لديه بالدفوع التي كان يستطيع التمسك بها في مواجهة المنيب مشروط فيه أن يكون المناب لديه حسن النية.
أما إذا كان المناب لديه سيء النية ، فيستطيع المدين المناب أن يتمسك في مواجهته بسائر الدفوع التي كان من حقه اتذرع بها في مواجهة المنيب ، لأن المشرع اشترط صراحة لعدم جواز التمسك بهذه الدفوع أن يكون المناب لديه حسن النية.
أما الشرط الثالث فهو ألا تكون الدفوع المدلى بها في مواجهة المناب لديه سواء كان حسن النية أم سيئها ، دفوعا متعلقة بالأهلية الشخصية. فالمقطع الأخير من الفصل 354 من ق.ل.ع ورد فيه أن المدين المناب " يسوغ له أن يتمسك في مواجهة ادائن الجديد بالدفوع المتعلقة بالأهلية الشخصية ، إذا كانت هذه الدفوع مبنية على أساس وقت قبوله الإنابة ومجهولة عندئد منه ".
فالمناب الذي كان التزامه نحو المنيب قابلا للإبطال لنقص في الأهلية وقبل الإنابة ، يستطيع أن يحتج في مواجهة المناب لديه بنقص الأهلية لإبطال التزامه نحو المنيب وبالتالي لإبطال الإنابة ، شرط أن تكون الإنابة وقعت في وقت مازال باستطاعة المناب الطعن في التزامه في مواجهة المنيب وأن يكون قد قبل الإنابة وهو يجهل أن التزامه نحو المنيب قابل للإبطال.
علاقة المنيب بالمناب
قد يقبل المناب بتكليف من المنيب أداء التزام إلى المناب لديه دون أن تكون هناك مديونية سابقة ما بين المنيب والمناب. فإذا قام المناب بتنفيذ الإلتزام الذي رتبه على نفسه نحو المناب لديه ، كان له حق الرجوع بدعوى شخصية على المنيب لاسترداد ما دفع مالم يكن المناب قد انصرفت نيته إلى التبرع للمنيب بقيمة ما أداه فعندئد لا يرجع بشيء على المنيب.
أما إذا كان المناب مدينا للمنيب وقبل الإنابة فالوضع يختلف بين أن تكون الإنابة ، إلى جانب انطوائها على تجديد الدين بتغيير المدين ، قد تضمنت كذلك قصد المناب تجديد الدين المترتب في ذمته للمنيب عن طريق تغيير الدائن ، وبين أن تكون لم تتضمن مثل هذا القصد : ففي الحالة الأولى يعتبر المناب قابلا بأن يستبدل بدائنه الجديد ( وهو المناب لديه ) دائنه القديم ( وهو المنيب ) وبأن يفي التزامه تجاه المنيب بالإلتزام الجديد الذي نشأ بذمته للمناب لديه. ومادام الأمر كذلك ، فلا يكون لمناب الرجوع بشيء على المنيب إذا ما قام المناب بالوفاء بالإلتزام الذي رتبه على نفسه قبل المناب لديه. أما في الحالة الثانية فإن التزام المناب إزاء المنيب يبقى مستقلا عن الإلتزام الذي نشأ بذمته قبل المناب لديه نتيجة الإنابة. وعليه إذا وفى المناب بهذا الإلتزام إلى المناب لديه حق له أن يرجع على امنيب لاسترداد ما دفع ، على أن يكون للمنيب طبعا مطالبة المناب بالوفاء بالتزامه نحوه. وقد تجري إذ ذاك المقاصة بين ما يطلبه المناب من المنيب وبين ما يطلبه المنيب من المناب ، إذا ما توافرت شروط المقاصة ، ويكون ذلك سببا لانقضاء حق رجوع المناب على المنيب.
تعليقات
إرسال تعليق