التنظيم القانوني للمسؤولية العقدية
الأصل في العقد أنه يلزم عاقديه بكل ما يحويه فهو يتضمن قوة تحتم على طرفيه الرضوخ والإذعان له ، وبعبارة أخرى هو يتضمن قوة ملزمة لطرفيه باحترامه ، بالنسبة لكل أحكامه، فهو بالنسبة إليهما ، وفي حدود تنظيم العلاقات التي يحكمها ، كالقانون ، فلا يستطيع أحدهما أن يستقل بنقضه ولا بتعديله مالم يصرح له القانون بذلك ، وإذا انتهى القاضي إلى أن هناك عقدا صحيحا مستجمعا كل أركانه وشروط صحته ، فإنه يصبح واجب التنفيذ.
ولما كانت الغاية من إنشاء العقود والإتفاقات المبرمة بين الأطراف هو تنفيذ مضمونها بالطريقة المألوفة في ميدان التعامل ، ونعني بذلك تنفيذ الإلتزام عينا حسب ما تم الإتفاق عليه، لا فرق في ذلك بين الإلتزامات بالقيام بعمل أو الإمتناع عن القيام بعمل أو التي تفيد غعطاء شيء ما ، إلا أن هناك أكثر من سبب يحول دون حصول هذا التنفيذ العيني بعضها يرجع لإرادة المتعاقدين ، وبعضها الآخر يرجع لأسباب أجنبية كالقوة القاهرة والحوادث الفجائية والأخطاء المنسوبة للغير.
ويتضح من هذا أن جزاء القوة الملزمة للعقد يتلخص في أمرين : الأول هو التنفيذ الجبري للالتزام تنفيذا عينيا إذا كان هذا ممكنا ، والثاني هو المسؤولية العقدية.
يقصد بالمسؤولية العقدية ذلك الجزاء المترتب عن الإخلال بالإلتزامات التعاقدية. فلما كان العقد شريعة المتعاقدين فإنه كان لزاما احترام مضمون هذه العلاقة وأي إخلال بها إلا ويستوجب تحميل المسؤولية للطرف الذي تسبب في حصول هذا الإخلال ، وهذا ما عبر عنه المشرع في الفصل 269 من ق.ل.ع بقوله " يستحق التعويض إما بسبب عدم الوفاء بالإلتزام وإما بسبب التأخر في الوفاء به وذلك ولو لم يكن هناك أي سوء نية من جانب المدين ". وعلى كل حال فإن إعمال قواعد المسؤولية العقديةتنحصر في إطار العلاقة التي تربط المتعاقدين ببعضهما عند إخلال أحدهما بالإلتزامات العقدية.
وقد تعرض المشرع المغربي لتنظيم قواعد المسؤولية العقدية في الفصل 262 وما يليه من ق.ل.ع كما فسرها وأكملها الإجتهاد القضائي الصادر في الموضوع. لكن مادام الأمر يتعلق بميدان التعاقد الذي يخضع لمبدأ سلطان الإرادة ، فإنه بإمكان العاقدين تنظيم نتائج الإمتناع عن التنفيذ. من ثم فإلى جانب التنظيم القانوني للمسؤولية العقدية ، قد توجد اتفاقات مخالفة يتبناها الأطراف كضابط لها.
وهكذا سنتناول التنظيم القانوني للمسؤولية العقدية ( المحور الأول ) ، ثم سنتطرق للتنظيم الإتفاقي للمسؤولية العقدية.
المحور الأول : التنظيم القانوني للمسؤولية العقدية
لا بد لإثارة المسؤولية العقدية من تحقق شروط شكلية وأخرى موضوعية.
أولا : الشروط الشكلية لإثارة المسؤولية العقدية
لا مجال لتحقق المسولية العقدية إلا عند توافر ثلاثة شروط شكلية : وجود عقد يربط بين الطرفين ، كون هذا العقد صحيحا ، ووجوب إخطار المدين بتنفيذ التزاماته العقدية.
وجود عقد يربط ين الطرفين
لا تنهض المسؤولية العقدية إلا عند وجود عقد تام التكوين. من ثم لا نكون أمام إخلال بالتزام تعاقدي إذا تحقق الضرر خلال مرحلة ما قبل التعاقد ، مادام لم يوجد بعد أي عقد. وهذا ما يستفاد من خلال الفصل 263 من ق.ل.ع الذي جاء فيه " يستحق التعويض ، إما بسبب عدم الوفاء بالإلتزام ، وإما بسبب التأخر في الوفاء به ، وذلك ولو لم يكن هناك أي سوء نية من جانب المدين ".
كون هذا العقد صحيحا
لا تنهض المسؤولية العقدية عند الإخلال بالتزامات واردة في عقد باطل أو قابل للإبطال.
فبخصوص العقد الباطل ، من البديهي أن أحكام المسؤولية التقصيرية هي المطبقة لوحدها ، مادامت الرابطة العقدية منعدمة.
فأمام عقد باطل فإن العاقد ضحية خطأ اقترفه غريمه تحميه فقط القواعد العامة لتعويض المسؤولية التقصيرية عن العمل الشخصي عند تحقق شروطها. وينبني على ذلك أنه لا يعتبر سوى خطأ تقصيريا الخطأ الناتج عن بطلان العقد نظرا لعدم مشروعية السبب المتصل بأحد العاقدين دون الآخر ، أو عدم مشروعية محل اتزام أحد العاقدين ، أو عدم وجوده مع ثبوت حسن نية الطرف الآخر.
أما بخصوص العقد القابل للإبطال فإن الحكم مختلف لأن العقد المختل يوجد ، مادامت المحكمة لم تعلن عن إبطاله بطلب من العاقد الآخر ذي المصلحة أو من في حكمه. لذلك يتعين التمييز هنا بين فرضيتين :
فرضية الضرر الناتج عن الإبطال : ينطبق نظام الإخلال العقدي عند ترتب الضرر عن الإبطال. فمثلا يتحمل بائع ملك الغير المسؤولية العقدية في مواجهة المشتري عند رفض المالك الإقرار. أو مالم يكتسب البائع فيما بعد ملكية المبيع ( الفصل 485 من ق.ل.ع ).
فرضية الضرر غير الناتج عن الإبطال : هنا يختلف الحكم باختلاف التمييز الآتي : إذا تحقق الضرر فبل الإعلان عن الإبطال فإن التعويض عنه يتم طبقا لأحكام المسؤولية العقدية. لكن بمجرد الإعلان عن الإبطال ينعدم العقد بأثر فوري ، ولذلك لا يمكن الحديث سوى عن الخطأ التقصيري ، الذي يعوض عنه طبقا لأحكام المسؤولية التقصيرية عن الخطأ الشخصي.
إخطار المدين بضرورة تنفيذ التزاماته العقدية
الإخطار في معناه الدقيق هو تعبير صريح عن إرادة الدائن الذي يطلب تنفيذ الآداءات المستحقة له. من ثم فهو وسيلة لإثبات مطل الطرف المتخلف عن تنفيذ التزاماته. وهو يفيد في معناه الجاري كل تصرف يمكن من تنبيه المدين عن فقدان أحد حقوقه أو إثبات الطابع الإرادي لعدم تنفيذ التزاماته.
والأصل أنه لا يثبت مطل المدين بمجرد تخلفه عن الوفاء بالتزاماته في وقتها المحدد. لذلك فالإخطار مطلوب كمقدمة لترتيب كل جزاء ناتج عن عدم تنفيذ أي التزام تعاقدي ، يستوي أن يتعلق الأمر بطرق التنفيذ المباشرة أو التنفيذ بمقابل عن طريق التعويض.
لكن تخرج عن هذا المبدأ عدة استثناءات ناتجة إما عن إرادة الأطراف أو عن مقتضيات قانونية.
الإستثناءات الناتجة عن إرادة الأطراف
بإمكان العاقدين أن يتفقا على أن مطل المدين يترتب كأثر فوري بمجرد حلول وقت تنفيذ التزاماته ، وذلك دون حاجة لتوجيه إخطار له من قبل الدائن. وهذا ما يستفاد من خلال فصلين وردا في ق.ل.ع : الفصل 255 ـ فقرة أولى ـ الذي جاء فيه " يصبح المدين في حالة مطل بمجرد حلول الأجل المقرر في السند المنشئ للالتزام ". والفصل 260 الذي نص على أنه " إذا اتفق المتعاقدان على أن العقد ينفسخ عند عدم وفاء أحدهما بالتزاماته ، وقع الفسخ بقوة القانون بمجرد عدم الوفاء ".
إضافة إلى ذلك لا ننسى أن الأصل في العقود والاشتراطات التي تتضمنها هو الإباحة والإستثناء هو المنع الذي يتعين أن ينص عليه المشرع صراحة ، جاء بهذا الخصوص ضمن الفصل 57 من ق.ل.ع "...ويدخل في دائرة التعامل جميع الأشياء التي لا يحرم القانون صراحة التعامل بشأنها ". وينبني على ذلك على أن شرط إعفاء الدائن من إخطار المدين المتخلف عن تنفيذ التزاماته التعاقدية هو شرط مشروع لا ينطوي على أي إخلال بالنظام العام أو بالقواعد الآمرة ، بل هو على العكس من ذلك يسهل المعاملات ، ويبعد الحرج والشدة على أطرافها ، من ثم فهو ملزم واجب التنفيذ بحسن نية. وهذا ما أجمله ق.ل.ع ضمن فصلين : الفصل 230 الذي ورد فيه أن " الإلتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها ، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما أو في الحالات المنصوص عليها في القانون ". والفصل 231 الذي نص عى ما يأتي " كل تعهد يجب تنفيذه بحسن نية. وهو لا يلزم بما وقع التصريح به فحسب ، بل أيضا بكل ملحقات الإلتزام التي يقررها القانون أو العرف أو الإنصاف وفقا لما تقتضيه طبيعته ".
وعليه ففي هذه الفرضية تنهض المسؤولية العقدية للمدين الذي يلتزم بتعويض الدائن ،ولو لم يخطره هذا الأخير بضرورة تنفيذ التزاماته.
الإستثناءات الناتجة عن إرادة المشرع
ثمة عدة مقتضيات قانونية تعفي الذائن في الإلتزام التعاقدي من إخطار المدين بضرورة التنفيذ ، وذلك في العديد من الفرضيات التي يكون في أغلبها هذا الإخطار عديم الجدوى أو الفائدة. ويندرج في هذا الإطار بالخصوص :
الإلتزام العقدي محدد الأجل والذي يصبح معه المدين في حالة مطل فور حلول هذا الأجل ( الفصل 255 ـ فقرة أولى ـ من ق.ل.ع ).
عندما يرفض المدين صراحة تنفيذ التزامه ،أو يصبح هذا التنفيذ مستحيلا ( الفصل 266 من ق.ل.ع ).
الإلتزام بعمل الذي يتحول عند عدم تنفيذه إلى تعويض بمقابل ، دون حاجة إلى إخطار المدين بضرورة الوفاء بالتزاماته ( الفصل 261 من ق.ل.ع ).
الإلتزام بالامتناع عن عمل الذي يتحول عند عدم احترامه إلى تعويض بمقابل ، دون تطلب إخطار المدين بوجوب تنفيذ التزاماته ( الفصل 262 من ق.ل.ع ).
أما بخصوص شكل الإخطار ، فيلاحظ تساهل المشرع في كل من محتوى الإخطار وطريقته.
فبخصوص محتوى الإخطار يتعين أن يتضمن :
طلبا موجها إلى المدين بالوفاء بتعهداته في أجل مناسب.
تصريحا بأنه عند انصرام هذا الأجل فإنه يحق للدائن اتخاذ ما يراه ملائما في مواجهة المدين ( الفصل 255 ـ فقرة 2 ـ من ق.ل.ع ).
أما عن طريقته ، فيكفي أن يتم بكل ما من شأنه أن يدل صراحة عيله ، بالكتابة سواء في شكل رسالة تكون مضمونة مع الإشعار بالتوصل ، أو في شكل برقية ، بل يمكن أن يتخذ شكل مطالبة قضائية ولو رفعها الدائن ضد مدينه إلى جهة قضائية غير مختصة ( االفصل 255 ـ فقرة أخيرة ـ من ق.ل.ع ).
وطبقا للفصل 275 من ق.ل.ع لا يكفي مطل الدائن لإبراء ذمة المدين ، وإذا كان محل التزامه قدرا من النقود " وجب على المدين أن يقوم بعرضه على الدائن عرضا حقيقيا ، فإذا رفض الدائن قبضه ، كان له أن يبرئ ذمته بإيداعه ي مستودع الأمانات الذي تعينه المحكمة. وإذا كان محل الإلتزام قدرا من الأشياء التي تستهلك بالإستعمال أو شيئا معينا بذاته ، وجب على المدين أن يدعو الدائن إلى تسلمه في المكان المعين في العقد أو الذي تقتضيه طبيعة الإلتزام ، فإذا رفض الدائن تسلمه ، كان للمدين أن يبرئ ذمته بإيداعه في مستودع الأمانات الذي تعينه محكمة مكان التنفيذ ، وذلك عندما يكون الشيء صالحا للإيداع ".
لذلك فعندما يكون الطرف المماطل هو الدائن في الإلتزام فإن إخطاره يجري عن طريق سلوك مسطرة عرض تنفيذ الإلتزام والإيداع لدى صندوق الأمانات بالمحكمة. جاء بهذا الخصوص في الفصل 171 من ق.م.م " إذا رفض الدائن قبول الشيء الذي عرضه مدينه أو من يتصرف باسمه أو يقدمه تنفيذا لالتزام حال ، فإن المدين ينذره ضمن الشروط المقررة في الفصل 148 لقبول وفائه ". هذا مع العلم أن الفصل المحال عليه يتحدث عن اختصاص رئيس المحكمة الإبتدائية ـ أو من ينوب عنه ـ لإصدار أمر مبني على طلب أمور مختلفة من بينها توجيه إنذار.
ويرتب الإخطار عدة آثار من أبرزها :
إعراب الدائن بصورة صحيحة عن رغبته في المطالبة بالتنفيذ الفوري للإلتزام، وذلك تحت طائلة مطالبته بالتنفيذ الجبري أو الفسخ.
انتقال التبعة من طرف لآخر. فإذا تعلق الأمر بالتزام بتسليم شيء محدد بذاته ، فإن الإخطار بالتنفيذ يؤدي إلى انتقال تحمل تبعة المخاطر المرتبطة به إلى الطرف الآخر. وهذا ما أكد عليه ق.ل.ع ضمن فصلين : الفصل 266 الذي جاء فيه " المدين الموجود في حالة مطل يكون مسؤولا عن الحادث الفجائي والقوة القاهرة ". والفصل 273 الذي نص على ما يأتي ابتداء من الوقت الذي يصبح فيه الدائن في حالة مطل ، تقع عليه مسؤولية هلاك الشيء أو تعييبه ، ولا يكون المدين مسؤولا إلا عن تدليسه وخطئه الجسيم ".
تحمل المدين مسؤولية التعويض نظرا لتأخره في اوفاء بالتزاماته ، وذلك منذ تاريخ إخطاره.
إنطلاق إحتساب فوائد الإلتزامات النقدية ، وذلك في المعاملات التجارية ، وكذا المعاملات المدنية التي يكون طرفاها أو أحدهما غير مسلمين.
ثانيا : الشروط الموضوعية لإثارة المسؤولية العقدية
كما هو حال المسؤولية التقصيرية تقتضي المسؤولية العقدية تحقق ثلاثة شروط موضوعية : خطأ عقدي ، ضرر ، وعلاقة سببية بينهما.
الخطأ العقدي
جاء ضمن الفصل 263 من ق.ل.ع " يستحق التعويض ، إما بسبب عدم الوفاء بالالتزام ، وإما بسبب التأخير في الوفاء به ، وذلك ولو لم يكن هناك أي سوء نية من جانب المدين ".
يتبين من ذلك أن الخطأ العقدي يؤخذ بمعناه الواسع ، فهو يشمل أي قدر من الإخلال بتنفيذ العقد الذي ارتضاه المدين. فقد يتجسد الإخلال في رفض أحد العاقدين كليا أو جزئيا تنفيذ التزاماته اتي وافق عليها ، أو التأخير في التنفيذ ، أو التنفيذ في غير المكان امتفق عليه ، أو التنفيذ بمواصفات مخالفة لشروط العقد.
أيضا ثمة صور أخرى للخطأ العقدي كأن يسلم ابائع شيئا معيبا للمشتري وهو على اطلاع سابق بوجود هذا العيب ، أوبائع العقار الذي يعلم مسبقا بأن هذا العقار يتهدده نزع الملكية لأجل المنفعة العامة. كما قد يتجسد الخطأ العفدي في التستر على الحقيقية والإمتناع عن إسداء النصح للمتعاقد معه ، سيما عندما يتعلق الأمر بالعقود البالغة الأهمية ،أو التي يكون أحد عاقديها مستهلكا عاديا يفتقر إلى العلم بشؤون الحرفة محل التعاقد.
ومجمل القول ، إن الخطأ العفدي يتحقق سواء تعلق الأمر بعدم تنفيذ التزامات أساسية مشترطة صراحة في العقد ، أو تعلق الأمر بعدم تنفيذ التزامات ثانوية مشترطة بصورة ضمنية ، أو تعتبر من ملحقات الإلتزام التي يفرضها القانون ، أو العرف أو الإنصاف ، وفقا لما تقتضيه طبيعته.
كما أن نظام الإخلال العقدي يتحقق منذ الوقت الذي يعرض فيه المدين عن تنفيذ التزاماته التي تعهد بها ، ولو لم يقترن ذلك بخطأ اقترفه. وسند ذلك مفهوم المخالفة للفصل 263 من ق.ل.ع الذي يفيد بأن المسؤولية العقدية تنهض ولو كان المدين الممتنع عن التنفيذ حسن النية.
وللإشارة لا ترتفع المسؤولية العقدية عن المدين الممتنع عن التنفيذ إلا إذا ثبت أن هذا الإمتناع يعود إلى سبب أجنبي خارج عن إرادته كالقوة القاهرة أو خطأ الدائن أو خطأ الغير.
ومن المعلوم أن معيار الخطأ العقدي في الوقت الحاضر هو معيار موضوعي ، مجرد ومرن يعتمد في أساسه على التفريق بين نوعين من الإلتزامات :
الإلتزامات بنتيجة : وبمقتضاها يتعهد المدين بتحقيق النتيجة المتفق عليها. حيث إن أي إخلال بالغاية المتفق عليها إلا ويستتبع التعويض بمقابل. وبذلك تنهض المسؤولية العقدية للمدين عقب إثبات الدائن لامرين فقط : وجود التزام عقدي وإخلال المدين به.
ولمعرفة ما إذا كان يحق للمدين دفع المسؤولية العقدية نظرا لسبب أجنبي فإنه يتعين التمييز بين نوعين من الإلتزامات بنتيجة :
التزامات بنتيجة مطلقة : ويندرج في هذا الإطار الالتزامات التي ترد على مبلغ من النقود أو أشياء مثلية بشكل عام. وهنا لا يمكن أن تتحلل الذمة المالية للمدين لأي حادث أجنبي كان ، لأن الأشياء المثلية لا تنعدم ، بل يوجد لها دائما نظير في السوق، فيلتزم المدين بنتيجة بالمفهوم المطلق للمصطلح. من ثم لا يجوز الحديث عن التنفيذ بمقابل أو المسؤولية العقدية. فيكون من الممكن دائما إجبار المدين على التنفيذ العيني، هذا مع العلم أنه يمكن الحكم عليه بالتعويض عند تأخره عن التنفيذ ليس غير.
التزامات بنتيجة عادية : ويتعلق الأمر هنا بالخصوص بالإلتزامات التي ترد على أشياء قيمية ( أو أعيان معينة بذاتها ). ومعها تقوم المسؤولية العقدية للمدين المخل باتنفيذ. غير أنه بإمكان هذا الأخير أن يتخلص من تلك المسؤولية إذا أقام الدليل على أن الإخلال يعود لسبب أجنبي لا يد له فيه كقوة قاهرة أو خطأ الدائن أو خطأ الغير.
الإلتزامات بوسيلة : ويلتزم معها المدين المتعاقد ببذل العناية اللازمة للوصول إلى النتيجة المرجوة دون ضمان تحقيقها فعلا.
ويلاحظ أن العناية المطلوبة في هذا النوع من الإلتزامات هي عناية الرجل العادي متوسط الذكاء الذي يدعى " رب الأسرة العاقل ". هذا مع العلم أنه ينظر إلى معيار الرجل العادي في طائفة الحرفة أو المهنة التي يجري التعامل معها.
بمعنى أن الخطأ العقدي في الإلتزامات بوسيلة يتحقق بشرطين : عدم تنفيذ الإلتزام ، وتصرف خاطئ يأتيه المدين ، ويتمثل في تقصيره وتهاونه في تحقيق النتيجة المرجوة.لذلك فخطأ المدين شرط لتحقق مسؤوليته العقدية في هذا النوع من الإلتزامات. هذا مع العلم أن الدائن المتضرر هو الذي يتحمل عبء إثبات العنصرين المذكورين مستعملا كل وسائل الإثبات باعتبار أن الإخلال العقدي يعتبر من الأمور التي يتداخل فيها الواقع بالقانون.
الضرر العقدي
الهدف من المسؤولية العقدية هو إصلاح الضرر الذي وقع للدائن والناتج عن عدم تنفيذ الطرف المدين لالتزاماته. من ثم فالإخلال بالتنفيذ لا يكون مصدرا للمسؤولية إلا إذا سبب ضررا للدائن تجسد فيما لحق به من خسارة مالية وما فات عليه من فرص الربح ، شريطة أن يرتبط ذلك مباشرة بالإخلال الموجب للمسؤولية.
ويتميز التعويض المستحق عن الضرر العقدي بأنه ذو نطاق محدود جدا فهو يقتصر على الأضرار المباشرة التي كانت متوقعة عند إبرام العقد ، ثم إن أمر تقديره لازال موكولا للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع ، وهذا خلافا للضرر التقصيري الذي عرف عدة تطورات منها على الخصوص أن التعويض يمتد لتغطية الأضرار غير المتوقعة فضلا على أن المشرع قد تدخل في أكثر من حالة لتحديد هذا التعويض.
وقد نص المشرع صراحة في الفصل 264 من ق.ل.ع على تعويض الضرر المادي فقط الناتج عن عدم تنفيذ الإلتزام العقدي المتمثل فيما " لحق الدائن من خسارة حقيقية وما فاته من كسب متى كانا ناتجين عن مباشرة عن عدم الوفاء بالإلتزام ".
ويشترط في الضرر مجموعة من الشروط يمكن تقسيمها إلى قسمين : شروط عامة تقتضيها عموم المسؤولية المدنية ( التقصيرية والعقدية ) ، وشرط خاص تنفرد به المسؤولية العقدية.
الشروط العامة للضرر العقدي
يتعلق الامر بشروط مطلوبة حتى في مجال المسؤولية التقصيرية ، وهي تشمل : أن يكون الضرر شخصيا ، ناشئا عن الإخلال بمصلحة مشروعة ، مباشرا ، ومحققا.
أن يكون الضرر العقدي شخصيا
جاء بهذا الخصوص ضمن الفصل 264 من ق.ل.ع " الضرر هو ما لحق الدائن من خسارة حقيقية وما فاته من كسب...". يتبين من ذلك أن التعويض عن الضرر الناتج عن الإخلال العقدي ينحصر فقط في شخص الدائن باعتباره المتضرر المباشر نتيجة لعدم تنفيذ المدين لالتزامه. وسند ذلك قاعدة " لا دعوى من دون مصلحة ".
لكن ذلك لا يمنع رفع دعوى المسؤولية العقدية من قبل الوكيل أو النائب الشرعي أو القضائي باسم الموكل أو القاصر المحجور أو الموجود في وضعية أحد موانع الأهلية كالغائب أو المحكوم بعقوبة جنائية. وذلك بهدف الحصول عن تعويض الضرر العقدي اللاحق بأحدهم.
وإذا توفي المتعاقد المتضرر من عدم التنفيذ فإن حق التعويض ينتقل إلى خلفه العام سواء كان المتضرر المتوفي قد رفع دعوى المطالبة بالتعويض خلال حياته أم لا. كل ذلك مع احترام المقتضيات القانونية المتعلقة خصوصا بالأحكام الشرعية للإرث وإجراءات التقاضي.
أن يكون الضرر العقدي ناشئا عن الإخلال بمصلحة مشروعة
الضرر العقدي الذي يعطي الحق في التعويض هو الضرر الذي يكون مترتبا عن الإخلال بمصلحة مشروعة ، أي مصلحة يحميها القانون ، لأن التعويض هو في الحقيقة انعكاس لحماية قانونية.
من ثم فالمصلحة التي يحميها القانون في موضوعنا هي المصلحة المبنية على عقد صحيح يربط بين الطرفين ، يكون موضوعه لا يتعارض مع النظام العام ولا القواعد الآمرة. بخلاف ذلك إذا كان الإخلال العقدي يتعلق بمصلحة لا يحميها القانون فلا يكون هناك مجال للتعويض. وهكذا لا يجوز للدائن أن يطلب التعويض عن ضرر يتمثل في امتناع المدين عن القيام بالعمل غير المشروع محل التعاقد.
أن يكون الضرر العقدي مباشرا
الحقيقة أن المدين لا يسأل مبدئيا إلا عن الضرر المباشر ، أما الضرر غير المباشر فيمكن أن يأخذه القاضي بعين الإعتبار إذا أخل المدين بالتزامه عن عمد أو اقترف خطأ جسيما أو غشا. وهذا ما يستفاد ضمنيا من خلال صياغة الفصل 264 ـ فقرة أولى ـ من ق.ل.ع الذي جاء يه " الضرر هو ما لحق الدائن من خسارة وما فاته من كسب متى كانا ناتجين مباشرة عن عدم الوفاء بالإلتزام. وتقدير الظروف الخاصة بكل حالة موكول لفطنة المحكمة التي يجب عليها أن تقدر التعويضات بكيفية مختلفة حسب خطأ المدين أو تدليسه ".
وللإشارة فالضرر العقدي المباشر هو الذي يكون نتيجة طبيعية لعدم الوفاء بالإلتزام أو للتأخير في الوفاء به ، بحيث لا يستطيع الدائن تجنبه ببذل جهد معقول. ويعود تقدير ذلك لقاضي الموضوع الذي يفصل في كل نازلة على حدة تبعا لظروفها الخاصة ، دون أن يخضع لرقابة محكمة النقض.
أن يكون الضرر العقدي محققا
ما يعوض عنه في ميدان المسؤولية العقدية ـ والتقصيرية أيضا ـ هو الضرر المحقق ، أي الواقع بالفعل أو الذي وقعت أسبابه وتراخت آثاره إلى المستقبل. في حين لا يعوض عن الضرر المحتمل الوقوع مستقبلا نظرا للشك الذي يحيط تحققه.
أما ضياع الفرصة فيندرج ضمن مايدعى " فوات الكسب " الذي يعوض عنه طبقا للفصل 264 من ق.ل.ع إذا كان مترتبا مباشرة عن عدم الوفاء بالإلتزام. غير أنه تعود لقاضي الموضوع سلطة تحديد أهمية الفرصة الضائعة ومدى جديتها ، أيضا يكتسي سوء نية المخطئ أهمية بالغة في رفع مقدار التعويضات الواجبة عن ضياع هذه الفرصة.
الشرط الخاص بالضرر العقدي : أن يكون متوقعا عند التعاقد
هو شرط تنفرد به المسؤولية العقدية التي تستوجب ـ مبدئيا ـ التعويض عن الضرر المباشر المتوقع وقت التعاقد ، أي المنتظر في هذا الوقت. وهذا ما يستفاد بصورة ضمنية من خلال الفصل 264 من ق.ل.ع الذي جاء فيه " الضرر هو ما لحق الدائن من خسارة حقيقية وما فاته من كسب متى كانا ناتجين مباشرة عن عدم الوفاء بالإلتزام...".
ويرجع السبب في اعتماد مبدأ تعويض الضرر المتوقع في مجال المسؤولية العقدية إلى أن هذه المسؤولية تقوم على العقد ، ولذا فإن إرادة المتعاقدين هي التي تحدد مدى الضرر الواجب التعويض عنه ، وقد افترض المشرع أن هذه الإرادة قد اتجهت إلى جعل المسؤولية عن الضرر مقصورة على المقدار الذي يتوقعه المدين ، ويكون هذا الإفتراض بمثابة شرط اتفاق يعدل من مقدار المسؤولية وذلك بقصرها على مقدار معين هو مقدار الضرر المتوقع.
بيد أنه يتعين على العاقد المدين أن يعوض كل الضرر المباشر ولو كان غير متوقع عند التعاقد ، وذلك عندما يتعمد الإخلال بالتنفيذ ، أو يبرهن على سوء نيته بإقدامه على اقتراف غش أو خطأ جسيم. وهذا ما يستنتج صراحة من خلال الفصل 264 من ق.ل.ع الذي أورد في سياق حديثه عن الضرر القابل للتعويض ما يأتي " ...وتقدير الظروف الخاصة بكل حالة موكول لفطنة المحكمة التي يجب عليها أن تقدر التعويضات بكيفية مختلفة حسب خطأ المدين أو تدليسه ".
إن إلزام المدين سيئ النية بتعويض كامل يشمل حتى الضرر غير المتوقع عند تكوين العقد ، يعني ببساطة تعريضه لعقوبة استثنائية ، ولكنها مستحقة. فهو لم يتردد في زعزعة الثقة التي وضعت فيه ، كما أنه تصرف كما لم يكن العقد موجودا. لذلك يعامله القانون بسوء قصده ، فيحرم من التذرع بالعقد، ويلتزم بأن يعوض حتى المخاطر التي لم يقبل بها في البداية ، بخلاف ذلك يحصل الدائن على مزايا ما لم يكن يتوقعها. لذلك يمكن اعتبار هذا الإجراء ضربا من ضروب العدالة الخاصة ، أو أحد تطبيقات النظام العام العقدي الذي ينكر على العاقد التخلص من تبعات خطئه الجسيم أو غشه ، وذلك تحت طائلة تعرضه لمسؤولية عقدية مشددة.
ج – العلاقة السببية بين الخطأ والضرر
من الضروري وجود رابطة سببية بين الخطأ والضرر لنهوض المسؤولية المدنية كيفما كانت طبيعتها ، تقصيرية أم عقدية. فبخصوص هذه الأخيرة من المؤكد أن نظام الإخلال العقدي يقتضي وجود علاقة منطقية مباشرة بين الضرر وبين الفعل المؤذي بصريح أحد نصوص القانون.
تقتضي إثارة المسؤولية العقدية وجود علاقة سببية مباشرة ومنطقية بين الضرر الذي يطلب الدائن التعويض عنه ، وبين خطأ المدين المتمثل في الإخلال بتنفيذ التزاماته العقدية ، بحيث إن ذلك الضرر نتيجة طبيعية لذلك الخطأ. وهذا ما أكد عليه المشرع بصورة صريحة من خلال الفصل 264 من ق.ل.ع الذي ورد ضمنه " الضرر هو ما لحق الدائن من خسارة وما فاته من كسب متى كانا ناتجين مباشرة عن عدم الوفاء بالإلتزام...".
ولا يخفى ما قد يكتنف تقدير الرابطة السببية من صعوبات ناتجة عن تعدد ظروف الأحوال وتداخلها. بحيث إن الكلمة الفصل تبقى لقاضي الموضوع الذي ينظر في كل نازلة على حدة. وذلك بالاعتماد على موجبات المنطق والفكر السليم ، وهو يتمتع بسلطة مطلقة لتقدير عناصر إثبات السبب.
غير أن قاضي الموضوع ملزم بتعليل حكمه حتى يتيح لمحكمة النقض بسط رقابتها من حيث توفر السبب بين الخطأ والضرر ، وكونه حقيقيا ، فالأمرين معا يندرجان ضمن نطاق تطبيق القانون.
والأصل أن يقع عبء إثبات العلاقة السببية في المسؤولية العقدية على عاتق الدائن المطالب بالتعويض عن إخلال المدين بالتزاماته ، حيث تقبل كل وسائل الإثبات ومن بينها القرائن القوية والمنضبطة. باعتبار الأمر مندرجا ضمن طائفة الوقائع المادية.
وللإشارة يسهل أمر تقدير العلاقة السببية في الفرضيات التي ينتج فيها الضرر عن الخطأ الجسيم أو المقترن بالتدليس. فقد ذهب المجلس الأعلى في قرار صادر عنه بتاريخ 12 أبريل 1972 إلى أن محكمة الموضوع عللت حكمها بالمسؤولية تعليلا كافيا وبينت العلاقة السببية بين الخطأ والضرر عندما صرحت بأن الطالب قد اعترف بتحرير بطاقة التأمين في تاريخ مسبق وأن خرقه للتعليمات التي تلقاها من المطلوب هو المتسبب في الضرر لها.
ومعلوم أنه توجد حالات استثنائية خاصة تفترض معها المسؤولية العقدية في مواجهة المدين المخل بتنفيذ العقد ، والمثال على ذلك :
مسؤولية المعماري أو المهندس و المقاول المكلفان مباشرة من قبل رب العمل : وهما يتحملان طبقا لفصل 769 ـ فقرة أولى ـ من ق.ل.ع " المسؤولية إذا حدث خلال العشر سنوات التالية لإتمام البناء أو غيره من الأعمال التي نفذاها أو أشرفا على تنفيذها أن انهار البناء كطليا أو جزئيا ، أو هدده خطر واضح بالإنهيار بسبب نقص المواد أو عيب في طريقة البناء أو عيب في الأرض ".
مسؤولية ناقل الأشخاص : وقد تعرضت لها مدونة التجارة ضمن مادتين بالخصوص : المادة 479 وجاء ضمنها " إذا تأخر السفر فللمسافر الحق في التعويض عن الضرر. إذا كان التأخر غير عاد أو إذا لم يبق للمسافر بسبب هذا التأخير سبب في القيام بالسفر ، حق له زيادة عن تعويض الضرر أن يفسخ العقد وأن يسترجع ثمن النقل الذي دفعه . لا تعويض للمسافر إذا كان التأخير ناتجا عن حادث فجائي أو قوة قاهرة ".
والمادة 485 التي تقضي بما يأتي " يسأل الناقل عن الأضرار اللحقة بشخص المسافر خلال النقل. ولا يمكن إعفاؤه من هذه المسؤولية إلا بإثبات القوة القاهرة أو خطأ المتضرر ".
فهاتان المسؤوليتان تقومان على خطأ مفترض في مواجهة المدين المسؤول الذي أخفق في تحقيق النتيجة المتفق عليها. من ثم فهو لا يستطيع التخلص من ضمان المسؤولية إلا بنفي العلاقة السببية بين الخطأ الذي اقترفه والضرر الذي وقع للدائن ، وذلك عن طريق إثباته أن هذا الضرر حصل بفعل أجنبي لا دخل له.
وبإمكان المدعى عليه في دعوى المسؤولية العقدية أن يتجنب الحكم عليه بالتعويض عن طريق دحض وجود أحد عناصر المسؤولية : الخطأ ، الضرر ، أو العلاقة السببية بينهما. أيضا بإمكانه تحقيق نفس النتيجة إذا أثبت السبب الأجنبي الذي يعفيه من تنفيذ العقد \ن ويخلصه بالتالي من كل مسؤولية عقدية مترتبة عن ذلك. جاء بهذا الخصوص ضمن الفصل 268 من ق.ل.ع " لا محل لأي تعويض ، إذا أثبت المدين أن عدم الوفاء بالالتزام أو التأخير فيه ناشئ عن سبب لا يمكن أن يعزى إليه ، كالقوة القاهرة ، أو الحادث الفجائي أو مطل الدائن" .
فهنا لا ترد المسؤولية العقدية نظرا لعدم إخلال المدين بالتزاماته أو عدم إصابة الذائن بالضرر ، وإنما ترد هذه المسؤولية نتيجة لانتفاء العلاقة السببية ، فالضرر العقدي ليس مترتبا عن فعل المدين بل عن سبب أجنبي ، باعتباره كل فعل أو حادث معين لا ينسب إلى المدعى عليه ، ويكون قد جعل تلافي العمل الضار أمرا مستحيلا . بمعنى أنه يشترط في السبب الأجنبي الذي يقطع العلاقة السببية في مجال المسؤولية العقدية شرطان : الأول أن يجعل من المستحيل على المدين الوفاء بالتزاماته التعاقدية. والثاني أن يكون أجنبيا عنه ولا دخل له في حصوله ، وهو لا يكون كذلك إلا إذا كان غير متوقع الحصول وغير ممكن تلافيه.
ويندرج في إطار الأسباب الأجنبية كل من : القوة القاهرة و الحادث الفجائي ، فعل الدائن أو فعل الغير.
القوة القاهرة :
توسع المشرع المغربي في مفهوم القوة القاهرة لتشكل كل الأمور التي لا يستطيع الإنسان توقعها ولا دفعها ، بما في ذلك بالطبع الأحداث الفجائية كما يستفاد من خلال منطوق الفصل 269 من ق.ل.ع
وقد عمد المشرع في مجال المسؤولية العقدية إلى تعريف القوة القاهرة من خلال الفصل 269 من ق.ل.ع الذي جاء فيه " القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه ، كالظواهر الطبيعية ( الفيضانات والجفاف ، والعواصف والحرائق والجراد ) وغارات العدو وفعل السلطة ، ويكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الإلتزام مستحيلا.
ولا يعتبر من قبيل القوة القاهرة الأمر الذي كان من الممكن دفعه ، مالم يقم المدين الدليل على أنه بذل كل العناية لدرئه عن نفسه.
وكذلك لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة السبب الذي ينتج عن خطأ سابق للمدين ".
يستفاد من ذلك أنه يشترط في حادث القوة القاهرة المعفية من المسؤولية شرطين أساسيين : عدم التوقع واستحالة الدفع.
الشرط الأول : عدم التوقع
يتعين أن يكون الحادث المكون للقوة القاهرة غير متوقع ، وإلا اعتبر الشخص مقصرا إذا لم يتخذ الإحتياطات الواجبة لتجنب عواقبه.
والمقصود بعدم التوقع هنا أن الحادث بالرغم من سبق حصوله فإن الرجل العادي لا يستطيع توقع حصوله مرة ثانية ، ولا يستطيع التنبؤ بتاريخ ذلك. فالمعيار الذي يعتد به ي هذا المقام هو معيار موضوعي لا ذاتي.
وقد ذهب المجلس الأعلى في قرار صادر عنه بتاريخ 14 يوليوز 1972 أنه إذا كان الحادث خارجا عن نطاق التوقع كالجفاف مثلا فإنه يعتبر قوة قاهرة ينطبق عليه أحكامها.
وكما هو معلوم يعتبر استخلاص معيار عدم التوقع من ين الأمور الموضوعية التي تندرج ضمن السلطة التقديرية لقاضي الموضوع ، الذي يتعين عايه أن يقوم بتعليل ما استنتجه على نحو مقبول من الوجهة المنطقية ، وإلا عرض حكمه للنقض بسبب انعدام التعليل أو قصوره.
الشرط الثاني : استحالة الدفع
أيضا يتعين لتحقق القوة القاهرة أن تكون واقعتها مستحيلة الدفع من قبل الجميع بمن فيهم المدين الذي تذرع بها لإبعاد المسؤولية عنه. وهذا ما يقتضي تحقق أمرين : الأول عدم القدرة على تلافي وجود الواقعة المكونة للقوة القاهرة ، والثاني العجز عقب نشوء هذه الواقعة على تجنب الآثار الناجمة عنها. من ثم فالمقصود هنا هو استحالة الدفع المطلقة ، أما الإستحالة النسبية المقتصرة على المدين دون غيره فلا يعتبر معها الحادث قوة قاهرة ولا يعفيه من المسؤولية.
ويعتمد بهذا الخصوص أيضا معيار موضوعي مجرد ، بموجبه يؤخذ الشخص العادي كمقياس لمعرفة ما إذا كان الفعل قاهرا له أم لا. لذلك بإمكان المحكمة أن تستعمل سلطتها التقديرية لتقرر الإعفاء من المسؤولية إذا لم يكن باستطاعة الرجل العادي مقاومة الفعل الذي اعترض الشخص المعني بالأمر أثناء وقوع الضرر,
وللإشارة تعتبر استحالة الدفع بدورها مسألة واقع يستقل بتقديرها قاضي الموضوع وحده ، وهو لا يخضع في ذلك لرقابة محكمة النقض إلا من جانب تعليل ذلك التقدير الموضوعي.
تعليقات
إرسال تعليق